المجتمع كمصدر للعقلانية والوعي لدى دوركايم
- المجموعة: رواد الفكر الاجتماعي
- تاريخ النشر
- د.مولود
- الزيارات: 9126
تشير محاولة إدراك طبيعة عقلانية السلوك ومصدرها من وجهة نظر دوركايم إلى تأثره بحقيقتين أساسيتين ،
الأولى :
أن عقلانية السلوك تأتيه من الخارج أساساً ، حيث نجد تأثراً في ذلك بالمثالية الألمانية خاصة المثالية الموضوعية لهيجل التي تؤكد أن الفكرة الشاملة أو العقل الكزني رشيد بطبيعته وأن تطوره يعتمد على نشر العقلانية في الواقع الذي يعني تعقله ومن ثم تطابقه مع مقتضيات العقل الكوني ، بل إننا نجده يؤكد في أحيان كثيرة أن عقلانية الإنسان تتأكد إذا هو قد تطابق مع العقل الشامل أو عبر عنه ، وأن عظمة رجال التاريخ تتحقق إذا هم تكيفوا مع هذا العقل الكوني أو الفكرة المطلقة ، بالإضافة إلى ذلك فإن تأكيده على المصدر الخارجي للعقلانية ظهر كرفض للموقف المنفعي الذي يؤكد أن للإنسان الفرد عقلانيته الخاصة المستندة إلى حسابات اللذة والألم الناتجة عن سلوكه الفردي ، فهي عقلانية داخلية محكومة حكماً بيولوجياً ومحتمة بعوامل لا اجتماعية يرفضها دوركايم ،
ولتوضيح الموقف الدوركيمي من مقولة العقلانية نعرض مبدأ لطبيعة تحديده لها ، إذ يؤكد أنه إذا كان السلوك أو الدور ينجز في ظل شروط موقفية لا سيطرة للإنسان عليها ، فإن من أهم متطلبات السلوك العقلاني أن يتوافر فهم دقيق من قبل الفرد لطبيعة الشروط المتصلة بهذا السلوك ، في إطار ذلك فإن ما يأمله دوركايم ليست سيطرة الإنسان على شروط سلوكه من أجل أن تتثبت عقلانية السلوك ولكن أن يتوافر له فهم دقيق لها من أجل العمل وفقاً لمتطلباتهما . وفي تحديده لهوية ما هو عقلاني نجده ينسبه لمل هو اجتماعي ، ويذهب في ذلك إلى أن السلوك على المستوى الحيواني يستمد عقلانيته بالنظر إلى عامل غريزي ووراثي بينما السلوك الإنساني يختلف عن الحيواني نظراً لأن الإنسان لديه من الوعي الذي يحرره من فاعلية الغريزة والوراثة ، بيد أن الوعي الفرعي يعتبر جزئية متضمنة في الوعي الجمعي ، ومن ثم نجد أن دوركايم يعتبر الأخير هو المصدر الحقيقي لعقلانية السلوك ، يتضح ذلك حينما يؤكد في أكثر من موضع أن عقلانية الفعل تتجاوز الحساب أو الإدراك الفردي ، وإنما تتحدد هذه العقلانية أساساً بالنظر إلى الضمير الجمعي من حيث كونه يحدد القواعد الحاكمة للسلوك من الخارج بالإضافة إلى تشكيل غايات السلوك تلك التي تشكل جوهر الشخصية الفردية ، وأن نسق القيم النهائية المشترك بين أعضاء المجتمع هو الذي له علاقة بأنماط السلوك الفردي ، حيث يتصل هذا النسق بالأفراد الخاضعين له من خلال علاقة مزدوجة ، في جانب منها من خلال تحديد الغايات المتعلقة بأنماط السلوك محددة أو بمجموعة منها ، أو من خلال مجموعة القواعد المتحكمة في مجموعة السلوكيات هذه دون اعتبار إلى تنوع غاياتها المباشرة . ولتأكيد ذلك يذهب دوركايم إلى أن هناك من أنماط السلوك ما يستحيل إدراك معقوليته على المستوى الفردي ، فالانتحار الإرادي الاختياري الذي يأتيه الإنسان الذي يضحي بذاته في سبيل قيم أو مُثل عامة وعليا يقدسها المجتمع ، لا يمكن إدراك معقوليته على المستوى الفردي ، من حيث كونها سلوكيات تهدف إلى تأكيد القيم والمُثل المجتمعية ، ومن هذا المستوى تكتسب عقلانيتها ، بل إننا نجد أن سلوكاً كالانتقام الذي يأتيه الفرد انتقاماً من الآخر الذي سبب له أذى ومن ثم فالإنسان يقتله تحت وطأة اندفاع شعوري وعاطفي ، ولأن سلوك القتل لا يصلح الأذى الذي وقع فإنه يصبح لا عقلانياً ، غير أن مثل هذا الفعل يصبح عقلانياً على المستوى البنائي ، حيث يدرك سلوك القتل على إنه نوع من الانتقام لعمل على المجرم أن يكفّر عنه ، هذا العمل هو الاعتداء على الأخلاق العامة ، ويذهب دوركايم إلى أنه إذا كان نسق القيم هو المحدد لعقلانية السلوك في الواقع ، فإن القيم الدينية هي التي تحدد عقلانية هذا السلوك في إطار العالم غير الامبيريقي أو غير الواقعي ، وهنا أيضاً نلاحظ أن عقلانية السلوك تتحدد من خارجه ، ويحاول دوركايم نقل هذه الرؤيا بحيث لا تكون قاصرة على الباحث الملاحظ من خارج سلوكه إلى الإنسان ذاته حينما يؤكد أنه إذا كان سلوكه يتحقق من خلال الثقافة واملاءات نسق القيم العامة والنهائية سواء كانت ذات طابع ديني أو واقعي ، فإنه لكي لا يتحول سلوك الإنسان إلى سلوك ميكانيكي لا عقلاني ومن ثم يفقد بشريته ، فإنه ينبغي عليه أن يدرك أن لسلوكه غايات أبعد منها ذاتها ، أي عليه أن يدرك مدى ترابط سلوكه مع أفعال الآخرين ، ثم مدى إسهامه وسلوك الآخرين في تحقيق الغايات النسقية العامة المتصلة بالضمير الجمعي أساساً ، في إطار ذلك فإننا نجد أنه إذا كان دوركايم قد ذهب إلى أن السلوك مفروض من قبل الضمير الجمعي ، فإنه يكون من المنطقي أن يكتسب السلوك عقلانيته ليس من خلال ذات الفرد ، ولكن من خلال اتصاله بالعنصر المعياري الذي يشكل جوهر الضمير الجمعي .
المصدر :
النظرية الاجتماعية المعاصرة ، د . علي ليلة